كان (ذو نؤاس) ملكًا ظالمًا، استعبد الناس وأوهمهم أنه فوق البشر جميعا .
وخضع الناس لهذا الملك الجبار ، واستسلموا له، ولم يظهروا أى اعتراض .
واستخدم معهم الأساليب الملتوية لتثبيت ملكه .
و استخدم لذلك القتل و التعذيب وغيرها من الوسائل .
و زاد على ذلك أنه استخدم السحر لهذا الغرض وبالغ فى ذلك حتى جعله من أركان حكمه .
وكان لا يأخذ قرارًا مصيريًا إلا إذا لجأ إلى ساحر من كبار السحرة فى مملكته يستشيره .
ونال هذا الساحر عند الملك منزلة خاصة ، ربما لم يصل إليها رجلُ آخر فى المملكة .
وأخذ كبار رجال المملكة يرفعون الساحر إلى أعلى الدرجات ويعتبرونه سرًا من أسرار حفظ مملكتهم .
و مع مرور السنوات أصبح الساحر رجلا طاعنا فى السن ولاحظ الجميع ذلك فدار فى مجلس الملك هذا الحوار :-
ماذا نفعل إذا أصاب هذا الساحر مكروه ؟
يا لها من كارثة !
وهنا التفت الملك ونظر إلى الساحر الكبير نظرة إشفاق وخوف .
فقال الساحر : هون عليك يا مولاي .
وما ترى أيها الساحر العظيم ؟
قال الساحر : ما أريد منكم إلا أن تختاروا غلاما ذكيًا فطنًا سريع الفهم والتلقين وتبعثوا به لأعلمه .
قال الملك ملتفتًا إلى وزرائه : ينفذ هذا الأمر حالا .
وعهد الملك بهذا الأمر إلى مجموعة من الحاضرين .
وأمرهم أن يختاروا الغلام المناسب ويقوموا بإجراء اختبارات الذكاء عليه. فإذا ظفروا على الغلام المطلوب فليخبروه قبل أن يرسلوه إلى الساحر .
وفعلا قام كبار رجال المملكة باختيار الغلام المناسب فوجدوه ابنا لرجل يعرفونه جيدًا ويسمى " التامر " أما الغلام فيسمى " عبد الله ".
وأدخلوا الغلام المختار ومعه أباه أمام الملك .
قال الملك للغلام : أنت عبد الله بن التامر ؟
فقال الغلام : أجل .
قال الملك : أريدك أن تتعلم ما يقوله لك الساحر .. وتفهمه جيدًا ولك عندي أعلى الجوائز والدرجات .
قال الأب : يا سيدي لك ذلك وأكثر .
وسوف يكون منه ما يرضيك .
وخرج " عبد الله " مع أبيه ، والوالد يطير فرحًا بهذا الغلام الذى رفعه إلى مقابلة الملوك .
(2)
فى اليوم التالي مباشرة خرج " عبد الله " من بيته مرتديًا أفخر ثيابه و متجهًا إلى الساحر ليتلقى على يديه فنون السحر المختلفة .
ومرت الأيام على هذه الحال والغلام يبدى استجابة وتقدمًا والساحر يبدى إعجابا بهذا الغلام الفطن .
وكان فى الطريق بين الساحر وقرية الغلام صومعة لراهب.
و ظل الغلام أيامًا ينظر إلى الصومعة و إلى الرجل الموجود بداخلها فى ذهابه وعودته .
ويسأل نفسه ماذا يا تُرى يفعل هذا الرجل ؟ ولماذا يأتي بهذه الحركات التى أراه يفعلها ؟
أتراه ساحرًا بطريقة أخرى ؟
كلا .. كلا . إنه ليس بساحر .
كانت هذه الأفكار تدور برأسه ، ثم ينطلق فى طريقه ذاهبًا إلى الساحر أو راجعًا إلى بلدته .
وفى يوم من الأيام كان الغلام متجهًا إلى الساحر فقال فى نفسه لأعرِّفن اليوم ماذا يفعل هذا الرجل .
وأخذ يقترب من الصومعة وينظر بداخلها ويحاول أن يسمع ما يقوله هذا الرجل الذى يجلس بها وينظر ماذا يفعل .
ولمحه الراهب فنادى عليه وأوشك الغلام أن يجرى من الخوف لكن الراهب كان يحمل وجها لا يدل إلا على الخير .
فأقبل عليه الغلام .
قال الراهب : منذ فترة وأنا أراك تمر من هذا الطريق .
فحكى له الغلام قصته و أنه يتعلم السحر عند ساحر الملك .
ثم قال الغلام : وأنت ماذا تفعل فى هذا المكان وحدك ؟
قال الراهب : أعبد ربى .
الغلام : ربك ! ومن ربك أهو ملك لبلد آخر ؟
فقال الراهب : إن الله هو ملك الملوك وهو خالقهم وخالق الناس جميعا .
إن الله – يا بنى – هو الذى خلق الشمس و القمر ، وخلق السماء والأرض . وخلقك وخلق الملك ، و خلقنى و خلق الساحر .
وكل ما ترى فهو خلق الله .
لهذا أنا أعبده وحده ولا أعبد معه شريك .
قال الغلام : لكنني لم أسمع به قبل ذلك . ولماذا لا يكون ملكُنا (ذو نؤاس ) هو الرب ؟
الراهب : يا بنى . لا يمكن أن يموت الإله أبدًا . . وطالما أن الملك (ذو نؤاس) سيموت فلا يمكن أن يكون إله .. إنه مثلي ومثلك يأكــل
ويشرب وينام ويمرض ولسوف يموت كما مات كل الملوك .
أما الله فهو الحى الذى لا يموت .
وكان الراهب رجلا صادق اللهجة عميق الإيمان، فأحبه الغلام وأحب الجلوس إليه .
ومرت الأيام وأًصبح الغلام يتأخر عن موعد الساحر فيضربه الساحر ويتأخر على أهله فيضربه أبوه .
فشكا ذلك إلى الراهب. فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسنى أهلى. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسنى الساحر.
وهكذا مرت الأيام على الغلام يتردد على كلٍ من الساحر والراهب ويأخذ عن الاثنين ، وهو فى نفسه يحب أمر الراهب لكنه يجد جميع من حوله يشجعونه ويحيونه على أمر الساحر .
وظل الغلام كذلك ولم يدرِ ما ستأتى به الأيام .
(3)
و فى يوم من الأيام و بينما كان " عبد الله " يسير فى الطريق المتجه إلى الساحر إذ وجد الناس يجرون فى كل اتجاه مذعورين .
ونظر فهاله ما رأى لقد رأى دابة عظيمة لا قوة لأحد بها .
فقال الغلام فى نفسه : اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟
فأخذ حجرا واتجه إلى الدابة ليقذفها بالحجر .
وأخذ الناس يتعجبون من هذا الغلام فبدلا أن يجرى منها ..
إنه يتجه إليها بكل ثبات !
انظر إليه انه يقترب أكثر وأكثر .. يا له من منظر عجيب !
وما هذا الحجر البسيط الذى يحمله ليقتل بها تلك الدابة العظيمة .
وأخذ الناس ينادون عليه وهم موقنون أنه ميت لا محالة إن أصر على ذلك.
لكن الغلام قال بكل يقين : اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس.
فرماها ..
يا للمفاجأة ! إنها تترنح .. وتتهاوى .. وتسقط ميتة .
وهنا صاح مئات الناس مهللين بما حدث ، فرحين بما صنعه الغلام .
وأصبح منذ هذه اللحظة من نجوم المجتمع الذين يشار إليهم بالبنان .
وهنا تأكد الغلام من حاسته الداخلية التى كانت تناديه أن الراهب على الحق ، فمضى " عبد الله " إلى الراهب يقص عليه ما حدث .
فقال له الراهب : أى بنى! أنت، اليوم، أفضل منى.
وسوف يعذبك الملك وجنوده .
الغلام : ولماذا يعذبوني ؟!
الراهب : أتظن أن طريق الإيمان طريقا سهلا ؟!
إن المؤمن لا بد أن يختبره الله ، لكي يتبين المؤمن الصادق من غيره. ولتزداد درجات المؤمن عند الله .
ولكن يا بنى إذا دعاك الملك وجنوده فضربوك أو آذوك فلا تخبرهم عنى فإني رجل كبير ضعيف كما ترى وأخشى ألا أصبر .
الغلام : أفعل بإذن الله .
و رجع الغلام "عبد الله" إلى قريته
وجاءه بعضهم يقول له كيف استطعت أن تفعل ذلك ؟
فقال : إن الله هو الذى قتلها وما أنا إلا رامي فقط .
قالوا : الله ! تقصد الملك ؟
قال : كلا . بل رب الملوك جميعًا . الذى خلقنا من العدم ورزقنا .
وهو يحيى ويميت . ويشفى ويمرض.
فقال له أحد الجالسين وكان به برص : هل تستطيع أن تشفيني يا غلام؟
قال الغلام : إذا آمنت بالله ، فإني أدعوه لك أن يشفيك .
فآمن الرجل ، ثم دعا الغلام الله له ، فأصبح جلده كأحسن الرجال.
وأخذ المرضى يتجهون إلى "عبد الله " ليدعوا لهم .
فيؤمنوا ويصيروا أصحاء .
وكان للملك جليس أعمى فسمع بذلك .
فذهب إليه و هو يحمل هدايا كثيرة.
فقال جليس الملك : إن هذه الهدايا لا تساوى شيئًا بجوار الأشياء التى سأحضرها لك إن أنت شفيتني .
فقال عبد الله : إني لا أشفى أحدا. إنما يشفى الله.
فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك.
فآمن جليس الملك بالله. ثم دعا له الغلام ، فشفاه الله.
فطار الرجل فرحًا بإيمانه الذى أزال ظلام قلبه .
وفرحًا ببصره الذى أزال عنه ظلام الدنيا .
(4)
فى مجلس الملك جاء الرجل الأعمى مبصرًا .
فقال له الملك متعجبًا: من رد عليك بصرك؟
قال: ربى.
قال: هل لك رب غيري؟
قال: ربى وربك الله.
فوجئ الملك بهذا الأمر، فنادى على جنوده وأمرهم أن يعذبوه حتى يقول من أين أتى بما يقول .
فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام.
قال الملك : يا له من غلام !
لقد تفوق على ساحرنا الكبير .
وأرسل أحدهم ليأتي بالغلام والساحر .
فجئ بالغلام .. ووقف أمام الملك .
فقال له الملك: أى بنى! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل و تفعل.
فقال: إني لا أشفى أحدا. إنما يشفى الله.
وهذا ليس سحرًا إنما هو من عند الله .
فأنا ما تعلمت السحر إلا من هذا الساحر الكبير .
وما ذهبت إليه إلا فترة وجيزة .
أو يستطيع الساحر أن يفعل ذلك ؟
قال الملك : إذن ممن تعلمت هذا الكلام الغريب ؟
سكت الغلام ولم يتكلم .
فأمر الملك جنوده فأخذوا يعذبونه حتى دل على الراهب صاحب الصومعة.
فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فوضع المنشار على مفرق رأسه. فشقه حتى صار نصفين .
ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فوضع المنشار فى مفرق رأسه.
فشقه به حتى صار نصفين .
ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به الجبل.
فإذا بلغتم أعلى الجبل ، فإن رجع عن دينه فاتركوه ، و إلا فاطرحوه.
فذهبوا به فصعدوا به الجبل.
فدعا الغلام ربه أن يكفيه شرورهم ويحميه منهم .
وهنا اهتز بهم الجبل فسقطوا من فوقه ميتين .
ثم رجع إلى الملك.
فقال له الملك: أين الجنود الذين بعثتهم معك ؟
قال: لجأت إلى الله داعيا أن يكفيني شرورهم فاستجاب لطلبي .
فكلف الملك مجموعة أخرى من الجنود أن يقتلوه فقال :
اذهبوا به فاحملوه فى سفينة ، فتوسطوا به البحر.
فإن رجع عن دينه و إلا فاقذفوه يغرق .
فذهبوا به وخيروه أن يرجع عن دينه أو أن يموت .
فقال: يا رب ! إليك ألجأ وعليك أتوكل فاحمني منهم بما شئت.
فانكفأت بهم السفينة فغرقوا.
و رجع إلى الملك.
فقال له الملك وقد فتحه فاه من العجب : ما فعل أصحابك؟
فحكى له ما حدث .
(5)
حاول الملك مرات ومرات قتل الغلام ..
لكن باءت جميع المحاولات بالفشل .
و تمنى لو تخلص منه بأي وسيلة .
فقال الغلام للملك: لن تستطيع قتلى حتى تفعل ما آمرك به.
قال: وما هو؟
وخضع الناس لهذا الملك الجبار ، واستسلموا له، ولم يظهروا أى اعتراض .
واستخدم معهم الأساليب الملتوية لتثبيت ملكه .
و استخدم لذلك القتل و التعذيب وغيرها من الوسائل .
و زاد على ذلك أنه استخدم السحر لهذا الغرض وبالغ فى ذلك حتى جعله من أركان حكمه .
وكان لا يأخذ قرارًا مصيريًا إلا إذا لجأ إلى ساحر من كبار السحرة فى مملكته يستشيره .
ونال هذا الساحر عند الملك منزلة خاصة ، ربما لم يصل إليها رجلُ آخر فى المملكة .
وأخذ كبار رجال المملكة يرفعون الساحر إلى أعلى الدرجات ويعتبرونه سرًا من أسرار حفظ مملكتهم .
و مع مرور السنوات أصبح الساحر رجلا طاعنا فى السن ولاحظ الجميع ذلك فدار فى مجلس الملك هذا الحوار :-
ماذا نفعل إذا أصاب هذا الساحر مكروه ؟
يا لها من كارثة !
وهنا التفت الملك ونظر إلى الساحر الكبير نظرة إشفاق وخوف .
فقال الساحر : هون عليك يا مولاي .
وما ترى أيها الساحر العظيم ؟
قال الساحر : ما أريد منكم إلا أن تختاروا غلاما ذكيًا فطنًا سريع الفهم والتلقين وتبعثوا به لأعلمه .
قال الملك ملتفتًا إلى وزرائه : ينفذ هذا الأمر حالا .
وعهد الملك بهذا الأمر إلى مجموعة من الحاضرين .
وأمرهم أن يختاروا الغلام المناسب ويقوموا بإجراء اختبارات الذكاء عليه. فإذا ظفروا على الغلام المطلوب فليخبروه قبل أن يرسلوه إلى الساحر .
وفعلا قام كبار رجال المملكة باختيار الغلام المناسب فوجدوه ابنا لرجل يعرفونه جيدًا ويسمى " التامر " أما الغلام فيسمى " عبد الله ".
وأدخلوا الغلام المختار ومعه أباه أمام الملك .
قال الملك للغلام : أنت عبد الله بن التامر ؟
فقال الغلام : أجل .
قال الملك : أريدك أن تتعلم ما يقوله لك الساحر .. وتفهمه جيدًا ولك عندي أعلى الجوائز والدرجات .
قال الأب : يا سيدي لك ذلك وأكثر .
وسوف يكون منه ما يرضيك .
وخرج " عبد الله " مع أبيه ، والوالد يطير فرحًا بهذا الغلام الذى رفعه إلى مقابلة الملوك .
(2)
فى اليوم التالي مباشرة خرج " عبد الله " من بيته مرتديًا أفخر ثيابه و متجهًا إلى الساحر ليتلقى على يديه فنون السحر المختلفة .
ومرت الأيام على هذه الحال والغلام يبدى استجابة وتقدمًا والساحر يبدى إعجابا بهذا الغلام الفطن .
وكان فى الطريق بين الساحر وقرية الغلام صومعة لراهب.
و ظل الغلام أيامًا ينظر إلى الصومعة و إلى الرجل الموجود بداخلها فى ذهابه وعودته .
ويسأل نفسه ماذا يا تُرى يفعل هذا الرجل ؟ ولماذا يأتي بهذه الحركات التى أراه يفعلها ؟
أتراه ساحرًا بطريقة أخرى ؟
كلا .. كلا . إنه ليس بساحر .
كانت هذه الأفكار تدور برأسه ، ثم ينطلق فى طريقه ذاهبًا إلى الساحر أو راجعًا إلى بلدته .
وفى يوم من الأيام كان الغلام متجهًا إلى الساحر فقال فى نفسه لأعرِّفن اليوم ماذا يفعل هذا الرجل .
وأخذ يقترب من الصومعة وينظر بداخلها ويحاول أن يسمع ما يقوله هذا الرجل الذى يجلس بها وينظر ماذا يفعل .
ولمحه الراهب فنادى عليه وأوشك الغلام أن يجرى من الخوف لكن الراهب كان يحمل وجها لا يدل إلا على الخير .
فأقبل عليه الغلام .
قال الراهب : منذ فترة وأنا أراك تمر من هذا الطريق .
فحكى له الغلام قصته و أنه يتعلم السحر عند ساحر الملك .
ثم قال الغلام : وأنت ماذا تفعل فى هذا المكان وحدك ؟
قال الراهب : أعبد ربى .
الغلام : ربك ! ومن ربك أهو ملك لبلد آخر ؟
فقال الراهب : إن الله هو ملك الملوك وهو خالقهم وخالق الناس جميعا .
إن الله – يا بنى – هو الذى خلق الشمس و القمر ، وخلق السماء والأرض . وخلقك وخلق الملك ، و خلقنى و خلق الساحر .
وكل ما ترى فهو خلق الله .
لهذا أنا أعبده وحده ولا أعبد معه شريك .
قال الغلام : لكنني لم أسمع به قبل ذلك . ولماذا لا يكون ملكُنا (ذو نؤاس ) هو الرب ؟
الراهب : يا بنى . لا يمكن أن يموت الإله أبدًا . . وطالما أن الملك (ذو نؤاس) سيموت فلا يمكن أن يكون إله .. إنه مثلي ومثلك يأكــل
ويشرب وينام ويمرض ولسوف يموت كما مات كل الملوك .
أما الله فهو الحى الذى لا يموت .
وكان الراهب رجلا صادق اللهجة عميق الإيمان، فأحبه الغلام وأحب الجلوس إليه .
ومرت الأيام وأًصبح الغلام يتأخر عن موعد الساحر فيضربه الساحر ويتأخر على أهله فيضربه أبوه .
فشكا ذلك إلى الراهب. فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسنى أهلى. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسنى الساحر.
وهكذا مرت الأيام على الغلام يتردد على كلٍ من الساحر والراهب ويأخذ عن الاثنين ، وهو فى نفسه يحب أمر الراهب لكنه يجد جميع من حوله يشجعونه ويحيونه على أمر الساحر .
وظل الغلام كذلك ولم يدرِ ما ستأتى به الأيام .
(3)
و فى يوم من الأيام و بينما كان " عبد الله " يسير فى الطريق المتجه إلى الساحر إذ وجد الناس يجرون فى كل اتجاه مذعورين .
ونظر فهاله ما رأى لقد رأى دابة عظيمة لا قوة لأحد بها .
فقال الغلام فى نفسه : اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟
فأخذ حجرا واتجه إلى الدابة ليقذفها بالحجر .
وأخذ الناس يتعجبون من هذا الغلام فبدلا أن يجرى منها ..
إنه يتجه إليها بكل ثبات !
انظر إليه انه يقترب أكثر وأكثر .. يا له من منظر عجيب !
وما هذا الحجر البسيط الذى يحمله ليقتل بها تلك الدابة العظيمة .
وأخذ الناس ينادون عليه وهم موقنون أنه ميت لا محالة إن أصر على ذلك.
لكن الغلام قال بكل يقين : اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس.
فرماها ..
يا للمفاجأة ! إنها تترنح .. وتتهاوى .. وتسقط ميتة .
وهنا صاح مئات الناس مهللين بما حدث ، فرحين بما صنعه الغلام .
وأصبح منذ هذه اللحظة من نجوم المجتمع الذين يشار إليهم بالبنان .
وهنا تأكد الغلام من حاسته الداخلية التى كانت تناديه أن الراهب على الحق ، فمضى " عبد الله " إلى الراهب يقص عليه ما حدث .
فقال له الراهب : أى بنى! أنت، اليوم، أفضل منى.
وسوف يعذبك الملك وجنوده .
الغلام : ولماذا يعذبوني ؟!
الراهب : أتظن أن طريق الإيمان طريقا سهلا ؟!
إن المؤمن لا بد أن يختبره الله ، لكي يتبين المؤمن الصادق من غيره. ولتزداد درجات المؤمن عند الله .
ولكن يا بنى إذا دعاك الملك وجنوده فضربوك أو آذوك فلا تخبرهم عنى فإني رجل كبير ضعيف كما ترى وأخشى ألا أصبر .
الغلام : أفعل بإذن الله .
و رجع الغلام "عبد الله" إلى قريته
وجاءه بعضهم يقول له كيف استطعت أن تفعل ذلك ؟
فقال : إن الله هو الذى قتلها وما أنا إلا رامي فقط .
قالوا : الله ! تقصد الملك ؟
قال : كلا . بل رب الملوك جميعًا . الذى خلقنا من العدم ورزقنا .
وهو يحيى ويميت . ويشفى ويمرض.
فقال له أحد الجالسين وكان به برص : هل تستطيع أن تشفيني يا غلام؟
قال الغلام : إذا آمنت بالله ، فإني أدعوه لك أن يشفيك .
فآمن الرجل ، ثم دعا الغلام الله له ، فأصبح جلده كأحسن الرجال.
وأخذ المرضى يتجهون إلى "عبد الله " ليدعوا لهم .
فيؤمنوا ويصيروا أصحاء .
وكان للملك جليس أعمى فسمع بذلك .
فذهب إليه و هو يحمل هدايا كثيرة.
فقال جليس الملك : إن هذه الهدايا لا تساوى شيئًا بجوار الأشياء التى سأحضرها لك إن أنت شفيتني .
فقال عبد الله : إني لا أشفى أحدا. إنما يشفى الله.
فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك.
فآمن جليس الملك بالله. ثم دعا له الغلام ، فشفاه الله.
فطار الرجل فرحًا بإيمانه الذى أزال ظلام قلبه .
وفرحًا ببصره الذى أزال عنه ظلام الدنيا .
(4)
فى مجلس الملك جاء الرجل الأعمى مبصرًا .
فقال له الملك متعجبًا: من رد عليك بصرك؟
قال: ربى.
قال: هل لك رب غيري؟
قال: ربى وربك الله.
فوجئ الملك بهذا الأمر، فنادى على جنوده وأمرهم أن يعذبوه حتى يقول من أين أتى بما يقول .
فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام.
قال الملك : يا له من غلام !
لقد تفوق على ساحرنا الكبير .
وأرسل أحدهم ليأتي بالغلام والساحر .
فجئ بالغلام .. ووقف أمام الملك .
فقال له الملك: أى بنى! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل و تفعل.
فقال: إني لا أشفى أحدا. إنما يشفى الله.
وهذا ليس سحرًا إنما هو من عند الله .
فأنا ما تعلمت السحر إلا من هذا الساحر الكبير .
وما ذهبت إليه إلا فترة وجيزة .
أو يستطيع الساحر أن يفعل ذلك ؟
قال الملك : إذن ممن تعلمت هذا الكلام الغريب ؟
سكت الغلام ولم يتكلم .
فأمر الملك جنوده فأخذوا يعذبونه حتى دل على الراهب صاحب الصومعة.
فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فوضع المنشار على مفرق رأسه. فشقه حتى صار نصفين .
ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فوضع المنشار فى مفرق رأسه.
فشقه به حتى صار نصفين .
ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به الجبل.
فإذا بلغتم أعلى الجبل ، فإن رجع عن دينه فاتركوه ، و إلا فاطرحوه.
فذهبوا به فصعدوا به الجبل.
فدعا الغلام ربه أن يكفيه شرورهم ويحميه منهم .
وهنا اهتز بهم الجبل فسقطوا من فوقه ميتين .
ثم رجع إلى الملك.
فقال له الملك: أين الجنود الذين بعثتهم معك ؟
قال: لجأت إلى الله داعيا أن يكفيني شرورهم فاستجاب لطلبي .
فكلف الملك مجموعة أخرى من الجنود أن يقتلوه فقال :
اذهبوا به فاحملوه فى سفينة ، فتوسطوا به البحر.
فإن رجع عن دينه و إلا فاقذفوه يغرق .
فذهبوا به وخيروه أن يرجع عن دينه أو أن يموت .
فقال: يا رب ! إليك ألجأ وعليك أتوكل فاحمني منهم بما شئت.
فانكفأت بهم السفينة فغرقوا.
و رجع إلى الملك.
فقال له الملك وقد فتحه فاه من العجب : ما فعل أصحابك؟
فحكى له ما حدث .
(5)
حاول الملك مرات ومرات قتل الغلام ..
لكن باءت جميع المحاولات بالفشل .
و تمنى لو تخلص منه بأي وسيلة .
فقال الغلام للملك: لن تستطيع قتلى حتى تفعل ما آمرك به.
قال: وما هو؟